إعادة العربية إلى خريطة العلم

ملخص بحث منشور فى ( ندوة مقومات التدريس الجامعى باللغة العربية ) التى عقدت بالقاهرة يوم الأربعاء الثانى من ذى القعدة عام أربعة عشر وأربعمائة وألف هجرية الموافق للثالث عشر من إبريل عام أربعة وتسعين وتسعمائة وألف ميلادية :

يقضى طلبة الكليات العملية فى الجامعة الكثير من وقتهم وجهدهم فى إهدار واضح لهذا الوقت و الجهد من خلال الدراسة بلغة أخرى غير اللغة التى يمارس بها الطالب حياته. فنسبة لا يستهان بها من وقته يضيع (حتى فى السنوات النهائية للدرجة الجامعية الأولى) فى ترجمة المصطلحات؛ مما يؤثر على الوقت المتاح للتحصيل وبالتالى على مستوى استيعابه لأساسيات العلم المختلفة. ويقود ذلك إلى النظر لمعرفة سبب تدريس العلوم بلغة غير لغة الأم فى مجتمعاتنا المختلفة فلا نجد لها سبباً إلا محاولة تقليد كل ما هو أجنبى مما أودى بأمتنا إلى فقد الثقة فى نفسها وقدراتها. ودارت العجلة لتؤدى إلى دوامة التخلف الذى نعيشه فى مجتمعاتنا، حيث أننا وخلال ما يقرب من قرن كانت دراستنا العلمية بلغة أجنبية ولم يؤد ذلك إلى تفوق ما؛ بل على العكس أدى ذلك بالإضافة إلى أسباب أخرى، إلى مزيد من التخلف عن ركب الحضارة رغم أن إسهامنا فى مسيرة الحضارة الإنسانية قديماً ليس محل شك وبالتالى فان من حقنا وواجبنا أن يكون لنا حالياً إسهام واضح فى مسيرة التقدم. يضيف هذا إلى حيرتنا حيرة أخرى عن سبب هذا الوضع. أهو محاولة تهوين كل قدراتنا ومحاولة غرس الاعتقاد بأن كل ما هو متقدم إنما هو أجنبى؟ قد يكون ذلك حقيقياً فمما لا شك فيه أن الإحساس هو مولد الطاقات وقتل الإحساس بالعزة والانتماء سيفيد المتربص بأمتنا. إن تأثير التدريس بلغة أجنبية على انتماء الأفراد سلباً لهو بالأمر الواضح تماماً مثل وضوح تأثير عملية التدريس بلغة أجنبية على مستوى الاستيعاب. إن نظرة سريعة إلى المجتمعات المتقدمة المعاصرة الأوروبية منها والآسيوية وغيرها، ليؤكد لنا أن استيعاب تلك المجتمعات للحضارة الحالية وإسهاماتهم فيها ما كان ليكون لولا تفاعلهم معها بلغتهم وليس بلغة أجنبية. وهذا الذى يحدث إنما يدعمه أيضا تاريخنا، فإسهامات العرب فى جميع فروع المعرفة إنما كانت دائما باللغة العربية وأظنها حقيقة؛ إلا من جاحد؛ أن فضل العرب على التقدم العلمى لا يُنكَر يوم استوعبنا وأضفنا وطورنا وأبدعنا العديد من العلوم بلغتنا، وقتما كانت الشعوب الأخرى ترزح تحت ظلمات الجهل. لقد كانت العربية لغة العلم خلال عدة قرون، ومنها تم ترجمة مختلف المعارف. وهذا يؤكد حقيقة مؤداها أن لغتنا استوعبت تلك المعارف وتلك العلوم. إن حركات التقدم كانت تتلو حركات ترجمة نشيطة. وهذه الحقيقة برزت فى جميع الحضارات سواء عند العرب قديماً أم عند دول آسيا وأوروبا حديثاً. إنه لمن العسير أن نفرض على جميع الطلبة فى مختلف الكليات الجامعية الدراسة بلغة أجنبية من أجل أقل من الواحد فى المائة من الخريجين ممن يكملون دراساتهم العليا؛ إن صحت مقولة أن التغريب يُمَكِننا من الإطلاع على الثقافات الأجنبية بيسر؛ فما نسوقه من حلول لكفيل من وجهة نظرى أن يضع أرجلنا على أول طريق الحل بدلاً من لوم الآخرين أو تكرار طلب ما نعرف أنه لن يتم إجابته. فهل لنا أن نبدأ بأنفسنا؟ وليس أدعى للتدليل على إمكانية دراسة اللغة بعد التخرج مما خابره أغلب أعضاء هيئة التدريس الحاصلين على الدرجات الجامعية العليا من الجامعات الألمانية، من دراسة مكثفة للغة الألمانية لمدة ستة أشهر تؤدى إلى أن يُكمِل الدارس دراسته بالألمانية ويقوم بكتابة أطروحته بالألمانية أيضاً. تلك أمثلة نسوقها ليس للتدليل على إمكانية الحل لأن الإصرار وحده لكفيل بحل كل مُعضل؛ بل للتدليل على سهولة ذلك الحل أيضاً. أإسهاماتنا الحالية فى العلم بكل ثقلنا الحضارى أكبر أم إسهامات الشعوب التى لا يزيد تعدادها عن العشرة ملايين؟ إن إسهاماتهم تفوق إسهاماتنا بمراحل فهل لنا أن نلحق بهم بالعلم والعمل وليس بالكلام؟ أظن أن تلك المقدمة لم تُضف شيئاً فذلك كلام بدهى. ولكن ما العمل لننفض عن أمتنا أثواب الجهل والتجهيل والتخلف لنتبوأ مكاننا الذى نستحقه بين الأمم؟ إن التعليم بجانب العدل لكفيل بذلك ليأمن كل فرد على حياته فيُبدِع، وليتعلم ماذا عساه أن يبدع هو والأجيال القادمة. وليس هذا دعوة إلى نبذ تدريس اللغات الأجنبية؛ بل على العكس؛ لابد من الاستمرار فى تدريس اللغات الأجنبية كلغة أجنبية فى معاهد العلم المختلفة حتى يمكننا استيعاب المستحدث من المعارف الوافدة من مختلف الثقافات والأمم. ولكن لابد أن يتم ذلك بطريقة جادة. إن التدريس بلغة أجنبية قضية تختلف أيما اختلاف عن تعليم اللغات الأجنبية كلغة أجنبية؛ بل إن تدريس أكثر من لغة أجنبية للطالب فى مراحل دراسته المختلفة بطريقة جدية لجد مطلوب، فاكتساب اللغة انفتاح على ثقافة أهل تلك اللغة. وما أحوجنا للانفتاح الجاد على مختلف اللغات والثقافات. كما أن تدريس اللغات يعطى ركيزة احتياطية لأى قصور قد ينشأ فى منظومة الترجمة التى لابد لنا من أن نُنْشِئها. كثر الكلام وقل العمل؛ فهل من طريق؟ يعانى الهيكل الجامعى حالياً من قصور فى تركيبته يواكب قصور المجتمع فى تفاعلاته. وأقل ما يمكن أن يوصف به أنه جامد الحركة فالأستاذ يمكنه أن يتقوقع علمياً فى مكانه فور ترقيته، والعالَم من حوله يجرى مما يُكَون (بجانب بعض الأمور الأخرى) نموذجاً غير مفيد للمجتمع بل ويمثل إهداراً للقيم والآمال التى طوق بها المجتمع رجالات الجامعة. و الحل للمجتمع وللجامعة أن ينتهى هذا الوضع لننهى أستاذ الممات ولنكون قدوة لمجتمعنا كى نمارس ريادتنا للمجتمع. أتمنى أن يلتزم الأساتذة بالتأليف بالعربية أو الترجمة للعربية بمعدل كتاب كل خمس سنوات من قائمة موضوعات نطرحها ونحتاج لها فى جامعاتنا. أيمكن أن يكون ذلك شرطاً للتجديد للأساتذة المتفرغين وغير المتفرغين. إن هذه العلاقة الجديدة بالإضافة إلى اشتراط ترجمة كتاب للعربية أو تأليف كتاب بالعربية من قائمة موضوعات محددة عند الترقية لوظيفة أستاذ مساعد وأستاذ فى جامعاتنا ومعاهدنا العلمية لكفيل أن يُنهى مشكلة التعريب خلال بضع سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة. إن المشكاة الملحة التى تحد التدريس والبحث باللغة العربية هى قلة المتاح من المراجع والكتب والدوريات باللغة العربية. وهذا يمكن أن يتم بتنظيم الجهود واستيعاب متغيرات التقدم فى مختلف مناحى التقدم العلمى الحالى، كما أن توفير البحوث والمطبوعات حالياً على الوسائط الالكترونية جعل الترجمة الآلية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية هدفاً قريب المنال. ولست أدعى ما ليس بموجود حين أشير إلى أن ذلك أحد مجالات رسائل الدراسات العليا الحالية التى يشارك بعضنا فى الإشراف عليها. إن هذا المجال بجانب الخطوات الأخرى المقترحة لكفيل بحل المشكلة بصورة جذرية خلال فترة وجيزة. إن الممارسات الحالية التى نجدها من تقاعس عن بذل الجهد المطلوب والركون إلى مطالبة جهة ما؛ سواء كانت الحكومة أم غيرها؛ بالحل بات شماعة قديمة لن تغنى ولن تسمن من جوع.

وما هو مُقترح من اشتراط التأليف أو الترجمة عند الترقى فى السلم الجامعى لهو خطوة مهمة على الطريق. كما أن الوقت قد حان لتأسيس جمعية علمية تضم من أَلَّف أو عَرَّب كتاباً علمياً ومن له جهد واضح فى هذا الشأن، لتنهض بشرف إعادة العربية إلى مكانتها التى تستحقها بين لغات الحضارة العالمية. تلك الجمعية يكون من أهدافها مساعدة مشاريع الترجمة الفعلية والمساعدة فى نشر بعض الكتب العلمية بالإضافة لإشعار الأفراد بالعزة للغتهم وإسهاماتها الحضارية وكذلك نشر الوعى بأهمية الترجمة كوسيلة لتنمية المجتمع. وهذا الجهد الذى نتمنى أن يكون جاداً مازال ينقصه ترجمة المصطلحات للغة العربية والذى يتم حالياً بصورة غير منظمة وبطيئة لا يواكب حركة التقدم فى العلوم المختلفة؛ فغالباً ما يتأخر ترجمة المصطلح إلى ما بعد شيوعه. فهل لمجمع اللغة العربية أن يتفاعل بحمية أكبر من أن يدعو فقط إلى التدريس بالعربية؟ وأرانى أضع أمام عَينَى ملحوظة عن تعريب المصطلح مؤداها أن التعريب يلزم أن يكون بالمدلول لأن الهدف من التعريب هو أن ينطبع المصطلح فى الذهن كى يساعد على فهم واستيعاب المادة العلمية. فالاسم الأجنبى مهما بدا سهلاً فهو طلسم لا يثير فى الذهن نفس المفاهيم التى يثيرها فى ذهن من كان ذلك المصطلح بلغته الأم. وهذا ما يتم فى اللغات الأجنبية مثل ترجمة كلمة حاسوب فى الإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات، فذلك يكون حسب المحتوى والمضمون. أما استعمال كلمة أجنبية مهما كانت شائعة فهذا إهدار لإعمال العقل وما كان للكلمة أن تشيع لولا تقاعسنا عن بذل الجهد المطلوب فى الوقت المناسب. هل يمكن أن تكون الخطوات المقترحة خطوة عملية على الطريق الصحيح وتكون بداية جهد منظم آن له أن يثمر قريباً بإذن الله.

إمارة أبو ظبي

اشترك الآن